منیر شفیق
أوباما -کیری ومحمود عباس- صائب عریقات بذلوا قصارى جهودهم فی لإنجاح المفاوضات و التی قد وصلت إلى طریق مسدود. وذلک بالرغم مما قدّمه الطرف الفلسطینی من تنازلات کانت مقنعة جدا لکیری. ولکنها لم تکن کافیة، کالعادة، للمفاوض الصهیونی - نتنیاهو.
وهذا ما جعل أوباما وکیری یخرجان منها غاضبین على نتنیاهو، إلى حد نفضا الید من الاستمرار بها. وابتلعا جرعة فشل هدّت من عزیمتیهما، وأودت بهما إلى الیأس.
ولکن عندما تحرک صائب عریقات إلى واشنطن، وهو یحمل معه مشروعا جدیدا للعودة إلى المفاوضات بمبادرة من محمود عباس. وقد التقطت الإدارة الأمیرکیة هذه السانحة الجدیدة (تنازل جدید) من الطرف الفلسطینی للخروج من مأزق الطریق المسدود الذی انتهت إلیه المفاوضات السابقة.
على أن المأزق الذی ترید أمریکا الخروج منه لیس طی صفحة المفاوضات فحسب، وإنما أیضاً، وهذا هو الأهم، الخروج من مأزق تفاقم الوضع فی القدس وحول المسجد الأقصى، إلى جانب مضی حکومة نتنیاهو بتصعید الاستیطان فی الضفة الغربیة، والتصمیم على فرض تقسیم الصلاة فی المسجد الأقصى.
هذا المأزق القدیم – الجدید راح یُنذر بردود فعل مقدسیة توشک بالتحوّل إلى انتفاضة تفقد قوات الأمن الصهیونیة القدرة على قمعها، الأمر الذی سیجّر معه بالضرورة اندلاع انتفاضة فی الضفة الغربیة، ومن ثم انـهیار أجهزة الأمن الفلسطینیة أمامها، وهی الأجهزة التی أرادها الاتفاق الأمنی أن تکون متصهینة تقمع المقاومة، وتقف سداً منیعاً فی وجه انتفاضة الشعب ضد الاحتلال، والاستیطان وتهوید القدس، والسیطرة على المسجد الأقصى، وتقسیم الصلاة فیه (کخطوة باتجاه بناء الهیکل المزعوم مکانه).
وقد أثبتت الوقائع أن محمود عباس الذی رهن استراتیجیته على المفاوضات، کما تعهد بقمع المقاومة المسلحة، والحیلولة دون اندلاع انتفاضة، یشعر الآن بأنه یتجه نحو مأزق خانق، وهو یرى انتفاضة القدس تتعاظم، وهو یعرف ما تفعله الأجهزة الأمنیة لمنع تفجر انتفاضة فی الضفة الغربیة، هذا ناهیک عما تفعله یداه فی استمرار الحصار غلى قطاع غزة، واستهداف أسلحة المقاومة وأنفاقها، بل وجودها من حیث أتى، ومن ثم ما یلمسه من تحفز للمقاومة فی غزة للرد على الاقتراب من سلاحها، أو بسبب ما یتعرض له المسجد الأقصى، أو لنصرة انتفاضة المقدسیین الأبطال (القدس وما حولها مقدسیون بل کل فلسطینی مقدسی حین تتعرض القدس للمصادرة والتهوید أو حین یُهدَّد المسجد الأقصى بالتقسیم أو بالهدم).
من هنا ندرک لماذا تحرّک محمود عباس لإطلاق مبادرة جدیدة للمفاوضات، ولماذا قوبلت المبادرة بالإیجابیة من قِبَل إدارة أوباما؟ بل أُعلِن أن وزارة الخارجیة الأمیرکیة منکبة على صوْغ مبادرة إحیاء للعملیة السیاسیة.
وبهذا تکون الأحداث تسیر فی فلسطین ضمن خطین متعاکسین: الأول یتجه فی قطاع غزة إلى إحکام الحصار، والتحکم بکل قبضة إسمنت تصله، من حیث التأکد من عدم وصول جزء منها إلى أیدی بناة الأنفاق التی أسهمت فی صنع الانتصار العسکری الذی حققته المقاومة والصمود الشعبی، وفی إنزال الهزیمة بعدوان الواحد والخمسین یوماً، صائفة عام 2014، وذلک فضلاً عن ضرب عزلة خانقة على القطاع من خلال خطة المنطقة العازلة التی ستسّوی رفح المصریة مع الأرض.
هذا الخط الأول یتجلى أیضاً، وقبل ذلک، بإحکام السیطرة الصهیونیة على المسجد الأقصى، والتمهید لاقتسام الصلاة فیه بین الیهود والمسلمین، کما سبق وحدث فی المسجد الإبراهیمی فی الخلیل، وذلک إلى جانب التوسّع فی الاستیطان، ومصادرة البیوت فی القدس وضواحیها، وفی تهجیر المقدسیین منها، وکذلک الحال بالنسبة إلى التوسّع الاستیطانی فی الضفة الغربیة.
أما الخط الثانی المعاکس فیتجلى فی تمسّک المقاومة بسلاحها، وبالاتفاق الأولی الذی أوقف إطلاق النار على أساس تحقیق الأهداف التی حدّدتها المقاومة، وتبناها الوفد المشترک بالکامل، وقد أخذ الراعی المصری یماطل فی تنفیذه، ویتوسّع فی المنطقة العازلة بین قطاع غزة والوجود السکنی المصری.
على أن البعد الآخر فی هذا الخط والمتعلق بالقدس والمسجد الأقصى قد اتجه إلى مواجهات یومیة بین المقدسیین وقوات الاحتلال الصهیونی، وصلت إلى اندلاع انتفاضة حقیقیة، سواء فی باحات المسجد الأقصى وحوله، أم فی الأحیاء والقرى المحیطة بالقدس، کحی الثوری وسلوان وأبودیس والعیزاریة والطور وشعفاط. فالقدس أصبحت کرة نار فی مواجهة خطر التهوید واقتسام الصلاة فی المسجد الأقصى، الأمر الذی راح بدوره یحرّک الشارع فی الضفة الغربیة عبر حراکات أخذت الأجهزة الأمنیة تتصدّى لها تصدیاً یشکّل فضیحة لسلطة رام الله ما بعدها من فضیحة، فقوات سعد حداد فی جنوبی لبنان لم تصل إلى هذا المستوى فی حمایة قوات الاحتلال، وفی التصدی لمقاومة الشعب لها، ولکن هذا مهَّدد بالانهیار أمام تطورات الأحداث فی القدس وأمام ردود فعل جماهیر الفلسطینیین ضدّه فی الضفة مسنوداً بحراکات شعبیة فی مناطق الـ 48.
من هنا تجددت المساعی الأمریکیة – الفلسطینیة لإنقاذ الوضع من توسّع انتفاضة القدس وانتقالها إلى الضفة، ولئلا یفیض الکیل مع المقاومة فی قطاع غزة.
فالمفاوضات، کعادتها دائماً، هی التی تستطیع أن تشکل غطاء للاستیطان ومصادرة البیوت والتوسّع فی تهوید القدس والاعتداء على المسجد الأقصى. فالتاریخ الواقعی شاهدٌ على ذلک.
والمفاوضات هی التی تربط فتح وبعض الفصائل بها، وتساعد على قمع کل مقاومة أو حراک تحت حجة انتظار نتائجها.
الأمر الذی یوجب أن تواجَه مساعی تجدید المفاوضات أو التسویة بالشجب والاستنکار، وبما یشبه الإجماع الفلسطینی، لا سیما من جانب الفصائل التی سبق وسکتت عنها حتى بالرغم من عدم قناعتها بها.
والأمر الذی یوجب إبقاء التصعید على طریق الانتفاضة فی القدس ودعمها فی الضفة الغربیة وقطاع غزة، وفلسطین الـ 48 وفی کل مناطق اللجوء.
بل إن الخطر على سلاح المقاومة فی قطاع غزة، وعلى المسجد الأقصى، والقدس، والخطر من تجدّد المساعی نحو التسویة یفرضان تحرکات سیاسیة وإعلامیة وشعبیة واسعة عربیاً وإسلامیاً ورأیاً عاماً عالمیاً.