عمق الوعی لدى شعوب العالم بعدم مشروعیة الوجود الصهیونی | ||
عندما أطلق الإمام الخمینی(رض) فکرة إقامة یوم للقدس کانت المنطقة تستقر على ثوابت الاستسلام والخضوع للمشروع الإسرائیلی, أما مستویات المعرفة والمسؤولیة والمشارکة لدى الشعوب العربیة والإسلامیة فقد کانت فی هبوطٍ حاد. جاءت الفکرة خارج السیاق الطبیعی للبیئة الراکدة والساکنة على شروط الهزائم والنکسات والخیبات المتتالیة. مُحرکات الاستنهاض مُعطلّة, ودوافع الخروج على الواقع المأزوم غیر مشجعة. ذلک أن المسارین السیاسی والثقافی کانا یتجهان إلى إنهاء عملیة الصراع مع إسرائیل والبدء فی تنفیذ "مشروعات التطبیع والتعایش السلمی"! خصوصاً أن النخب الحاکمة فی العالم العربی کانت تعتبر أن فرصة بقائها واستمرارها فی الحکم متوقف على إعطاء هذه المشروعات أولویة قصوى فی التشکل السیاسی والثقافی الجدید للمنطقة. وکان الهدف الانتقال بسرعة بالمنطقة بعد سلسلة من الترتیبات الأمنیة والسیاسیة من ظروف الممانعة والحرب إلى المساکنة والاعتدال . وقد عکست اتفاقیة کامب دیفید بین الکیان الصهیونی ومصر جوهر التوجهات الجدیدة فی العلاقات الاقلیمیّة. لکن لم یطل الأمر کثیراً, حتى جاءت الثورة الإسلامیّة الایرانیّة أشبه بالبرکان غیر المحسوب الذی اهتزّت له مراکز القرار فی العالم معیدة خلط الأوراق ومعادلات التوازن الاستراتیجی وأبنیة القوة والمصالح على أکثر من مستوى. وعلى الرغم من کل المحاولات الاستکباریة لإحباط الثورة ووأدها فی مهدها, فإنّ أیا من تلک المحاولات لم یفلح بتغییر شیء لا داخل إیران ولا الحد من دوائر الثورة التی أخذت هی بالتمدد والاتساع, وباتت تشکل مصدر تهدید حقیقی على مصالح الغرب فی المنطقة وعلى نفس وجود الکیان الصهیونی. وبالفعل لقد جاءت دعوة الإمام الخمینی (رض) فی سیاق إثارة قضیة المقدسات الدینیة فی فلسطین, ونقل الصورة المأسویة للشعب الفلسطینی الذی یتعرض لأبشع مظلومیة فی التاریخ الإنسانی المعاصر, وللتأکید على حق الشعب الفلسطینی بالعودة إلى کامل أرضه واستعادته جمیع مکتسباته وحقوقه غیر منقوصة, وأیضاً لتعمیق الوعی لدى شعوب العالم بعدم مشروعیة وقانونیة وأخلاقیة الوجود الصهیونی فی فلسطین الذی قام على الاغتصاب والاحتلال والارهاب والدمویة. لذلک تأتی دعوته باعتبار إسرائیل غدّة سرطانیّة یجب إزالتها من الوجود لتعبّر عن المعتقد السیاسی والإیمانی لدیه وفیما یتعلق بالموقف الذی یجب أن یکون علیه المسلمون بالدرجة الأولى من إسرائیل. ولا غرو أن هذه الدعوة التی بدأت خجولة فی بادىء الأمر تحولت مع الأعوام اللاحقة إلى عنوان عریض وشعار کبیر یقف خلفه أحرار العالم لمطالبة المجتمع الدولی للتحرک وأخذ المبادرة لإحقاق الحق فی هذه القضیة التی ترتبط بالوجدان الإنسانی وتؤثر بقوّة على الضمیر الغربی الذی قام بنفسه بوضع أنظمة ولوائح قانونیة وقیمیة لها صلة بحق الشعوب بتقریر مصیرها وحرمة الاعتداء والتدخل فی شؤون الغیر وغیرها الکثیر من الضوابط الأخلاقیة الحاکمة فی العلاقات الدولیة والتی لم تُطبّق بشکلٍ حرفی أو طُبقت ولکن ضمن معاییر مزدوجة. الیوم نحن بالفعل أمام مشهد جدید على مستوى المنطقة بکل ما تعنیه الکلمة. فإنّ ما کان یتنبأ به الإمام الخمینی بات مرئیاً وبات یقود إلى تحلیل مختلف عما کان علیه الموقف منه حینما أطلق وقتها یوم القدس العالمی. حینذاک لم تکن کل التقدیرات قادرة على بناء نتائج على دعوته التی عدّها البعض فی إطار الرومانسیة الثوریة. فیما تظهر الصورة الیوم کاملة وتستوی بالفعل على نهج التطلعات التی بشّر بها الإمام. إذ إن ما یحصل الیوم من ثورات فی العالم العربی شدید الارتباط بالثورة الایرانیة لجهة مطالبة الشعوب بالحریة والعدالة الاجتماعیة والمشارکة السیاسیة والاستقلالیة والخروج عن التبعیة للأجنبی. صحیح أن هذه الثورات لم تحقق کل أهدافها وإن هناک محاولات لإجهاضها وإغراقها فی بحور الفتنة الطائفیة والقبلیة وما إلى ذلک ولکنها فی بدایة طریق صحیح نحو تلک الأهداف. ولا ریب یبقى السؤال الأکبر متعلقاً بمدى نجاح هذه الثورات فی تغییر السیاسات الاستراتیجیة العامة فی المنطقة وتحویل الصراعات من صراعات داخلیة إلى صراع فی وجه أمریکا وإسرائیل. ومما لا شک فیه أن الثورات وضعت أولویات واضحة والتی تشکل جزءًا اساسیاً من بقیة الاولویات الأخرى. وهی إسقاط الأنظمة المستبدة, إطلاق الحریات, وإنشاء أنظمة دستوریة. وهذه الأولویات لوحدها کفیلة بإفراز ظروف مختلفة داخلیة وخارجیة تسهم فی إضعاف منظومة الأمن الأمیرکی والإسرائیلی فی المنطقة, بل تدفع باتجاه ازدیاد الضغوط على الکیان الصهیونی. وانطلاقاً من الواقع الجدید وجدت إسرائیل نفسها على وجه الخصوص أمام مآزق خطیرة على وجودها, فی وقتٍ تستفیق حلیفتها الولایات المتحدة الامیرکیة کل یوم وقد فقدت الکثیر من أوراق القوّة, وترى أنّ استعادة مکانتها ودورها الذی بدأ بالتراجع والهبوط خلال سنوات حکم بوش الابن یبدو فی منتهى الصعوبة. وعلى الرغم من محاولة الرئیس الحالی أوباما صیاغة استراتیجیة جدیدة للقوة الامیرکیة تتبنى أهدافاً قابلة للتحقق تعید بعض المصداقیة لها وتوفر بعض الضمانات للکیان الصهیونی إلا أن الامور لا تجری کما هو مأمول. أمریکا رغم أنها على قمّة هرم الهیمنة إلا أنها لیست القوة المهیمنة, وإسرائیل على رغم کونها على قمة هرم الردع إلا أنها لیست تلک القوة الرادعة والقاهرة التی تستطیع أن تفرض واقعاً ما. الحقیقة أن أمریکا وإسرائیل ما عادتا قادرتین بمفردهما القیام بأعمال عسکریة کبیرة والتدخل فی بلد من بلدان العالم لقلب نظام أو ما شاکل لمعالجة الاخفاقات والهزائم اللاحقة بهما. والاکثر جدارةً بالتنبؤ أنهما لیسا بحاجة لا إلى قوة ناعمة ولا إلى قوة عسکریة ضاربة بل إلى رسم سیاسات مع بلدان المنطقة على مبدأ المصالح المتبادلة. وحتى هذا الأمر وإن کان له نصیب فی الفترة الحالیة إلا أنه غیر قابل للاستمرار فی السنوات القادمة المفتوحة على احتمالات صراع کبیر بین شعوب المنطقة الرافضة للاحتلال الامیرکی والوجود الإسرائیلی والتی تعیش مشاعر ثوریة عارمة لاستعادة مکانتها ودورها وممارسة حریتها والتحفز لاختبار قوتها. ولذلک یأتی یوم القدس العالمی ضمن هذه التوجهات وفی إطار هذا المسار الشعبی المتحرک الذی لن یقبل إلا باستعادة فلسطین من البحر إلى النهر. ومن هنا نعرف قیمة تأثیر فکر الامام الخمینی ودعواته التی حولت الحلم إلى واقع ملموس.
بقلم بهاء النابلسی
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 4,380 |
||